كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصاح الخوارج بشتم يوسف والفرية عليه ورموه بالسهام والحجارة، فتباعد قليلًا وأغلظ لهم في الكلام وقال: يا معشر العصاة! أخبروني ما الذي حملكم على قتال الروم إن كنتم تقصدون بذلك صيانة القدس عن الأعداء فأنتم قد ابتذلتموه بالمعاصي ونجستموه بما سفكتم فيه من الدماء الكثيرة ظلمًا، وإن كنتم تريدون نصرة الأمة وإعزازها فأنتم تقتلونها بأيديكم وتبالغون في ظلمها والإساءة إليها، وهل يفعل الأعداء بكم أكثر مما فعلتموه؟ أو يبلغون فيكم أكثر مما قد بلغتموه في أنفسكم؟ أخبروني متى كان من تقدم من أمتنا أو تأخر يغلبون من يحاربهم ويستظهرون على أعدائهم بالعساكر والعدد دون الصلاح والتقوى؟ وهل تخلص من تخلص من الشدائد إلا بطاعة الله والدعاء له؟ وهل كانوا يغلبون إلا بنصر الله لهم ومعونته إياهم؟ وهل كان ينصرهم إلا إذا أطاعوه واتقوه؟ فلما عصوه سلط عليهم الأعداء ومكنهم منهم حتى قهروهم وأذلوهم، ولم ينتفعوا بعددهم وسلاحهم ولا قدروا على مقاومة الأعداء ببأسهم وقوتهم، وقد علمتم أن الله عز وجل كفى الصالحين في كل زمان أمر أعدائهم، فمنهم من دعا الله عز وجل عند الشدائد فاستجاب له بلا حرب، وأظهر الآيات العظيمة في معونتهم وكفايتهم، فبلغوا بذلك ما لم يكونوا يبلغون إليه بحولهم وقوتهم، ومنه من حارب الأعداء واستعان بالله عز وجل فأعانه على عدوه وظفره به، ولم يفعل الله مثل ذلك مع العصاة ليظهر فضيلة الصالحين، اعتبروا بأبيكم إبراهيم عليه السلام، لما أخذ فرعون امرأته ألم يضرب الله فرعون وأهله بالبلاء العظيم حتى خضع فانكسر ورد امرأة إبراهيم عليه السلام وهي سليمة، ثم أحسن إليه وأكرمه، فهل قدر إبراهيم عليه السلام على ذلك بالسيف والمحاربة أو بالصلاح والدعاء إلى الله عز وجل؟ وكذلك فعل الله مع إسحاق عليه السلام لما أخذ أبيمالخ ملك فلسطين امرأته، وقد علمتم أن موسى عليه السلام لم يستظهر على فرعون وعساكر المصريين حتى هلكوا وتخلصت أمة بني إسرائيل منهم بحرب ولا عدة، بل بالدعاء وكفاية الله له، ولما حارب عماليق بني إسرائيل هل غلبوه إلا بدعاء موسى عليه السلام وصلاته؟ ويوشع بن نون عليه السلام لما عبر الأردن مع بني إسرائيل قد كان في جمع كبير وقوة فهل فتح يريحا بالحرب أو بالآية العجيبة في سقوط الحصن؟ ولما أخطأ عاخان بما أخذه من يريحا من الغنيمة التي نهى الله عنها بني إسرائيل ألم يسخط الله على الأمة بسببه حتى غلبهم أهل مدينة عاي وهم قليل، فلم يقدر بنو إسرائيل مع كثرتهم على مقاومتهم إلى أن صلى يوشع بن نون عليه السلام ودعا إلى الله عز وجل فاستجاب الله دعاءه ونصر بني إسرائيل على عاي وجدعون لما غلب عسكر مدين وعماليق مع كثرتهم هل غلبهم إلا بمعونة الله لهم؟ واذكروا كيف انهزم عسكر الأرمن العظيم عن سبسطية بصلاة اليشع النبي عليه السلام ودعائه، وقد كان أهل المدينة أشرفوا على الهلاك من الجوع، فأوقع الله الخوف في قلوب الأرمن فانهزموا بغير حرب ولا قتال، وخرج أهل المدينة فغنموا عسكرهم وزال عنهم الجوع، واذكروا ما فعل الله مع نساء الملك ويوشافاط لما ظفرهما بأعدائهما بالدعاء والصلاة، وقد علمتم أن شمشون قبل أن يخطىء كان جبارًا مظفرًا، فلما أخطأ أسره أعداؤه فصار ذليلًا في أيديهم مثل أقل الناس وأضعفهم وطحنوه بالرحى مثل الإماء، وكذلك شاوول- وفي نسخة: طالوت- الملك لما كان طائعًا لله تعالى كان الله ينصره، فلما عصاه أسلمه الله إلى أعدائه فظفروا به، ولم ينتفع بعساكره وعدده، وأمصيا لما حارب أدوم غلبهم وظفر بهم، فلما أخذ أصنامهم ونصبها في بيت المقدس سخط الله عليه، فلما حارب يواش ملك بني إسرائيل بعد ذلك انهزم أقبح هزيمة لخذلان الله له وتركه معونته، واذكروا هلاك عسكر سنحاريب ملك الموصل العسكر العظيم بغير حرب ولا قتال بل بصلاة حزقيا الملك والأنبياء عليهم السلام ودعائهم، واعتبروا بصدقيا الملك لما عصى الكسدانيين وظن أنهم يغلبهم بعساكره وبعدته وخالف الأنبياء عليهم السلام في مسالمتهم، هل انتفع بذلك؟ وهل كانت عاقبته وعاقبة الأمة إلا إلى الهلاك؟ فهذا وغيره مما لم أذكره لكم يدلكم على عناية الله بالأخيار، وخذلانه للعصاة الأشرار.
وساق لهم من مثل هذا كلامًا كثيرًا بلغيًا، ثم رغبهم في طاعة اسفسيانوس بالخصوص بما اشتهر من حسن سيرته، وقال: ولو لم تعلموا ذلك إلا بما عاملني به من الجميل، وقد كنت أستوجب منه غير ذلك لكفاكم، لأني كنت أول من اجتهد في محاربته، وقتلت خلفًا كثيرًا من أصحابه، ولقد كنت أعلم أني خالفت الصواب، ولكني لما رأيتكم بأجمعكم قد اتفقتم على محاربتهم وبعثتموني لم أخالفكم، وبذلت المجهود في مناصحتكم، وثبت في حصن يودنات إلى أن فنى أصحابي، وغلبني الأمر، ولم يبق لي حيلة، ثم حصلت مع الروم فما أساؤوا إليّ بل أحسنوا وأجملوا وعفوا عني وأنا معهم إلى هذه الغاية على ما أحب، وقد كنت اجتهدت قبل حصولي معهم أن أهرب إليكم فما تم لي ذلك، وأنا الآن أحمد الله تعالى إذ لم يسهل لي ذلك، فإني لو كنت معكم لكنت إما أن أشارككم في أفعالكم هذه فأكون مخطئًا، أو أخالفكم فتقتلوني ظلمًا، فتأملوا ما خاطبتكم به ولا تظنوا أن الله ينصركم، فإنكم لا تستحقون ذلك لأنكم قد أسخطتموه، واستدلواعلى ذلك بآية عين سلوان، فإنها قد كانت قريبة من الجفاف قبل أن ينزل بكم هذه العساكر، فلما نزلوا غزرت فصارت كالنهر لتعلموا أن الله تعالى يريد معونة أعدائكم عليكم، وأنا أعلم أن كلامي لا يؤثر فيكم ليتم ما قد حكم الله به من هلاك هذه المدينة وخراب هذا القدس الجليل، ولذلك قد قست قلوبكم فصارت كالحجارة بل هي أقسى وأصلب من الحجارة، لأن الحجر قد يؤثر فيه الماء إذا دام انصبابه عليه، وأنتم لا تؤثر فيكم المواعظ الكثيرة، ولا تلين قلوبكم ولا تنكسر، ولكني قد بلغت الغاية فيما يلزمني من نصيحتكم، فاقبلوا نصحي وأشفقوا على هذا القدس الجليل الذي بنته الأنبياء المقدسون والملوك العظماء، فإن بقاء عزكم وثبات أمركم مقرون ببقائه وعمارته، وإن خرب لم يبق لكم عز ولا إقبال ولا دولة، فاقبلوا ما بذله لكم ابن الملك من الأمان، وثقوا بعهده وما ضمنه من الإحسان، وأنا الضامن لكم عنه، وإن اتهمتموني بأني أخدعكم وأريد معاونة الروم عليكم فأنتم تعلمون أن أبي وأمي وزوجتي الكريمة عليّ وأولادي معكم، فإن ظهر لكم من طيطوس بعد مسالمتكم له ما تكرهون فاقتلوهم واقتلوني فقد وهبتكم دماءهم ودمي على ذلك.
ثم بكى يوسف بكاء شديدًا، وكان طيطوس يسمع كلامه فرق له وأمر بإطلاق من كان من السبي في عسكره، وأطلق لهم أن يمضوا حيث شاؤوا فمال أكثر أهل المدينة إلى طاعة طيطوس، فمنعهم الخوارج ووكلوا بأبواب المدينة من يحفظها، وأمروا الموكلين أن يقتلوا كل من أراد الخروج، ولما طال الحصار اشتد الجوع، وكان الخوارج يفتشون منازل الناس وينهبون الطعام ويقتلون من مانعهم عنه، فكان الناس يموتون في المدينة بالجوع، ومن أراد الخروج إلى ظاهر المدينة ليأخذ شيئًا من نبات الأرض قتله الخوارج، وإن قدر على الخروج قتله الروم، فأفناهم ذلك، وكان طيطوس إذا سمع ذلك رق لهم واستعطفهم، فلا يزيد استعطافه الخوارج إلا قسوة، ويخاطبونه بالقبيح ليكف عن ذلك لئلا يميل معه الناس، فلما رأى ذلك جد في إخراب السور الثالث ليخلص الناس من الخوارج، فقسم عسكره أربعة أقسام ونصب كباشًا على الجهات الأربع، فخرج إليهم الخوارج فقاتلوهم قتالًا شديدًا، وقتلوا من الروم خلقًا كثيرًا، وكانوا قد ندبوا أربعة من أشدائهم لإحراق الكباش إذا اشتغلوا بالقتال، ولم يزالوا يقاتلونهم حتى تم لهم ما أرادوا وأحرقوا الكباش وجميع آلاتها، ونظر الروم من شجاعة اليهود وبأسهم ما هالهم فانهزموا، فردهم طيطوس وجعل يشجعهم وقال: أما تأنفون أن يغلبكم اليهود بعد أن استظهرنا عليهم، وهدمنا سورين من أسوار المدينة، ولم يبق غير سور واحد، وقد هلك أكثرهم وليس لهم من ينصرهم، ونحن فعساكرنا متوافرة، ومعنا أمم كثيرة تعيننا عليهم، ثم أمرهم أن يتركوا قتالهم حتى يهلكوا من الجوع، فضبطوا جميع طرق المدينة، فضاق الأمر بهم جدًا واشتد الجوع، ولم يكن أحد يقدر أن يطحن قمحًا لئلا ينهب، ولا يخبر لئلا يفضحه الدخان، فكان من عنده شيء يستفّون القمح والدقيق، فمات كثير من الناس، واشتغل الأحياء بأنفسهم، فما كانوا يدفنون موتاهم، وكان الحي ربما أخذ ميته فألقاه في بئر ثم يلقي نفسه بعده ليموت، وكان بعضهم يحفر له قبرًا ثم يضطجع فيه حتى يموت، وامتلأت الشوارع بالموتى، فكان الخوارج يلقونهم من السور إلى الوادي الشرقي، فلما رآهم طيطوس اغتم ورق لهم، وكان ببيت المقدس امرأة من أهل النعم، أصلها من مدينة في حيرة الأردن، فلما كثرت الفتن هناك انتقلت في جملة من انتقل إلى بيت المقدس بجميع عبيدها وسائر نعمتها، ولم يكن لها غير ابن واحد صغير وهي تحبه حبًا شديدًا، فلما قويت المجاعة، ونهب الخوارج جميع ما عندها، اشتد بها الأمر وكان ابنها يتضور من الجوع، فلما زاد بها الجوع وما يؤلم قلبها من تضور ابنها، أرادت قتل ابنها لتأكله، فبقيت حائرة لا تدري على أيّ الأمرين تحمل نفسها، هل تقتل ولدها العزيز عليها بيدها، وذلك من أعظم الأمور وأشنعها، أم تصبر على ما تراه به وبنفسها من البلاء وقد فارقها الصبر وعدمت الجلد، ثم زاد بها الجوع فزال عنها التمييز فقالت: يا ابني وواحدي! قد كنت آمل أن تعيش حتى تبرني، وكنت أخاف أن تموت قبلي فأفجع بموتك، فيا ليتني كنت قد ثكلتك فدفنتك واحتسبتك عند الله، والآن يا ولدي فقد أحاط بنا المكروه وأيقنا بالهلاك، فالحي لا يرجو الحياة والميت لا يدفن، وأنا وأنت هالكان، وإن مت يا بني لم يدفنك أحد وكنت كغيرك ممن أكلته الكلاب وطيور السماء، وقد رأيت أن أقتلك لتستريح مما أنت فيه ثم آكلك فأجعل بطني التي حملتك فيها قبرًا لك، وأسد بك جوعي، فيكون ذلك عوض برك بي الذي كنت أرجوه، وتنال بذلك الأجر العظيم، ويكون ذلك عارًا على هؤلاء الخوارج الذي أوقعونا في هذا البلاء، وزيادة في سخط الله عليهم، ويذكر ذلك على ممر الدهر، ويتحدث به بعدنا الأجيال، ويعتبر به ذوو الألباب، ثم قبضت على ابنها بيدها الواحدة وأخذت الحديدة بالأخرى وهي كالمجنونة، وحولت وجهها عنه لئلا تراه وضربته بالحديدة فمات، ثم أخذت منه وشوته وأكلته، فلما شم الخوارج ريح ذلك اللحم هجموا عليها فقالوا لها: من أين لك هذا اللحم؟ ولم استأثرت به علينا؟ فقال: ما كنت بالتي أوثر نفسي عليكم فاجلسوا، فجاءت بالمائدة وأخرجت ما بقي من جسم ابنها وقالت: هذا ولدي وأعز الناس عندي قتلته بيدي لإفراط الجوع وأكلت من لحمه، وهذا بقية جسمه عزلتها لكم، فكلوا واشعبوا ولا تكونوا أشد رحمة لولدي مني، ولا تضعف قلوبكم عن ذلك فإنه قبيح لشجعان مثلكم أن تكون امرأة أقوى قلبًا منكم، وأنتم أحق بأن ترضوا بهذا مني، لأنكم الذين سببتم علينا البلاء حتى بلغنا هذا المبلغ، ثم رفعت صوتها تبكي وتنتحب وتنوح على ابنها، فلما رأوا ذلك هالهم وخرجوا مذعورين واشتهر خبرها، فقلق الناس قلقًا شديدًا، وتحققوا صحة الوعيد الذي سبق من الله، وانكسر الخوارج لذلك واستعظموه وأطلقوا للناس الخروج، فخرج في ذلك الوقت خلق كثير.
فلما اتصل ذلك بطيطوس استعظمه واشتد خوفه من الله تعالى، فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم! أنت العالم بالخفيات والمطلع على السرائر والنيات، أنت تعلم أني لم أجىء إلى هذه المدينة لأسيء إلى أهلها ولقد ساءني أمر هذه المرأة فلا تؤاخذني به، وطالب هؤلاء الخوارج وانتقم منهم، وظفرني بهم ولا تمهلهم.
وأمر بالإحسان إلى من خرج إليه من اليهود، فكان كثير منهم لا يقدرون على فتح أفواههم، وكثير منهم مات لما أكل الطعام، وكان الصبيان وغيرهم يختطفون الخبز إذا نظروه وينهشونه بلا عقل، فإذا أكلوا ماتوا، فقال طيطوس ليوسف بن كريون: ما الحيلة في هؤلاء حتى لا يموتوا؟ فقال: ينبغي أن يسقوا اللبن والحساء الرقيق أيامًا حتى تلين أمعاؤهم، ثم الطعام بعد ذلك، ففعل ذلك فسلم منهم جماعة.
وتقدم الروم إلى السور الثالث ليهدموه فخرج إليهم يوحانان وشمعون وأصحابهما مع ما هم فيه من الضر فقاتلوهم قتالًا شديدًا، وقتلوا منهم جماعة، فأمر طيطوس بدفع الكبش على السور، فدفع عليه في الليل فهدم، وكبر الروم تكبيرًا عظيمًا وكبر اليهود من داخل المدينة، فلم يجسر الروم على دخول المدينة، فلما أصبحوا إذا سور جديد بإزاء الهدم قد بناه اليهود تلك الليلة وهم قيام عليه، فاستعظم الروم ذلك وأيسوا من الفتح، فقال طيطوس: هذا رطب لم يستحكم، وإذا ضربه الكبش أسرع الانهدام، فطلع الروم على السور الذي هدموه، ووقف اليهود على الجديد واشتد القتال، فهزمهم اليهود بعد أن قتلوا كثيرًا منهم فضجر الروم وعزموا على الرحيل، فجمع طيطوس أصحابه وقال: اعلموا أن كل من يعمل عملًا فإنما قصده إلى الغاية: ولذلك يصبر على التعب ليبلغ ما أراد، وربما كان آخر العمل أشق من أوله، فإن تركه ذهب تعبه ضائعًا وبقي عمله ناقصًا لا ينتفع به.
وضرب لهم أمثالًا في ذلك ثم قال: وأنتم قد صبرتم على محاربة هؤلاء القوم واستظهرتم عليهم إلى هذه الغاية حتى هلك رؤساؤهم وجبابرتهم، وخربت حصونهم ونفوا بالجوع والسيف، ولم يبق منهم غير شرذمة يسيرة كالموتى، فأن انصرفتم كنتم قد ضيعتم تعبكم وأنتم على أنفسكم وأهنتموها عند كل من يسمع خبركم، ولو كنتم انصرفتم عنهم قبل هذا كان أحسن بكم، وأما الآن فلا عذر لكم في عجزكم عن محاربة قوم قد بلغ بهم الضر والجوع هذا المبلغ، فإن رجعتم عنهم طمع فيكم كل أحد، واجترأ عليكم كل من يخافكم، ولم لا تتأسون باليهود في الصبر والشجاعة مع فناء رجالهم، واجتماع المكاره عليهم، وانقطاع رجائهم، فصبرهم إما طمعًا في الظفر، أو أنفة من الغلبة، أو رغبة في بقاء الذكر، فأنتم أحق بذلك منهم لتدفعوا العار عن أنفسكم على أنكم قد صبرتم في أيام تيروس قيصر على محاربة هؤلاء القوم، وعملتم على أن لا ترجعوا عنهم إلا بعد الظفر، فلما ملك أسفسيانوس الذي هو أشجع من تيروس وأعظم بأسًا، أردتم أن ترجعوا عنهم قبل أن تظفروا، فأيّ عذر لكم.
فلما سمعوا هذا ثبتوا.
ثم مضى جماعة منهم ليلًا، فصعدوا من تلك الثلمة ودخلوا إلى المدينة فكبروا، فانتبه اليهود وكانوا قد ناموا لطول تعبهم وضرهم، ولزم كل منهم مكانه، ومضى طيطوس إلى أصحابه فوقف عند السور إلى أن أصبحوا، فانهزم اليهود إلى القدس وتبعهم الروم فاقتتلوا في الصحن البراني، ولم يكن إلا السيوف لضيق الموضع، فكان بينهما قتال لم يكن فيما مضى لاستقبال الجميع، لأنهم حصلوا في موضع لا مطمع فيه بالسلامة إلا بالصدق في القتال، وكان الكل رجالة، فعظمت الحرب بينهم وعلت أصواتهم وضجيجهم حتى سمعت من البعد، وكثرت القتلى في الفريقين واستظهر اليهود آخرًا وأخرجوا الروم قرب ربع النهار، وأمر طيطوس بهدم سور مضوع متصل بالقدس يسمى أنطونيا ليتسع المجال لأصحابه، فلما هدم ذلك انثلم سور القدس وسهلت الطريق إليه، فبادر اليهود وبنوه وأدخلوه في جملة القدس فصار مربعًا، فكان ذلك تصديق ما رأوه قبل ذلك مكتوبًا على الحجر القديم المقدم ذكره: إذا كمل بنيان القدس فصار مربعًا فعند ذلك يخرب بيت المقدس وكان اليهود قد نسوا ذلك، فلما رأوه تذكروا وعلموا أن المدة قد تمت وأنه سيخرب.